من ذاكرة الطفولة (ابراهيم مقدير)

**من ذاكرة الطفولة**
"""""""""""""""""""""
كنت متمسكا بيد أبي ( رحمه الله) وهو يشق الأزقة ويلقي التحية على أناس لم أرهم من قبل .فقد نزحنا حينها من البادية ولم يمر على تمدننا سوى بضعة أشهر. الشيء الوحيد الذي إستوعبته وقتها أن المدينة تختلف عن البادية ...وأنني سأسجل في المدرسة في الخريف القادم ( سبتمبر 1978)..
كان أبي قد إصطحبني يومها إلى السوق ،فرحت أتخيل شكله ومعروضاته عبثا...كانت السوق قريبة بعض الشيء .وما إن إقتربنا حتى علت الأصوات تروج للسلع المعروضة ..
ثم بدت حركة غدو ورواح للناس كأنها مملكة نحل نشطة..
أما أبي فقد كان يسرع كانه يتجه إلى بائع معين دون غيره..
وبين الفينة والأخرى تنفلت يدي من قبضته ..فتهزني رعشة خوف ويتملكني الرعب مخافة التيه والضياع ...فحتى طريق العودة كنت أجهله..يعود والدي في لمح البصر ليوبخني على غفلتي وسببها هو إنبهاري لما أرى .....
لم أستطع أن أركز مليا في بعض السلع ،بل كنت أجهل معظمها.عدا الألبسة فقد خبرتها ...حتى الخضر والفواكه كنت أجهل الكثير منها ..
وأول تاجر وقفنا عنده هو بائع التوابل والبهارات..ثمة أدركت أهميتها في أكلاتنا اليومية .. بقيت شاردا منتبها لقمع تخرج منه أصوات تنادي على أسماء لأعضاء الجسم ( الركبتين، الظهر ،الفم .... إلخ). ثم ينادي بأسماء أعشاب عرفتها بعد مدة...وكم كانت فرحتي حين إشترى لي والدي يومها حذاء جديدا...وعرج على جناح الخضر والفواكه ليملأ قفة كانت بيده...ثمة بدت لي خيمة نضدت فوق طاولة بداخلها أصناف شتى من الحلوى فأشرت إليها في لهفة ..ليبادر أبي بشراء بعض الأنواع منها..
وأثناء تجوالنا كنا نقتني بين جناح وآخر بعض المشتريات..
وفجأة علا الصراخ والزجر والنهي ،فلم أكن أعي ما حدث حين اشرأب والدي وضغط على يدي فقلت في ذعر: ماذا هناك يا أبي ..؟
فرد قائلا: إنه شجار ...لا تخف إبقى بجانبي..
أفسد هذا الشجار علي نزهتي بعض الشيء .إلا أنه سرعان ما خمد وافترق المتشاجران .
فغدت كل حركة سريعة من والدي ..تنبؤ لي بمشكل ما إلا أنه كان أحيانا يتطلع للقاء صديق بين جموع المارة من الرجال المتسوقين...فاطمأننت حينها وتبدد الفزع مني...
كانت عيناي تجوبان ما أمكن من أجنحة السوق ،حتى رأيت عجوزا مفترشة بساطا وحولها مواد عديدة عرفت حينها سوى( اللبان والسواك) وكان وجهها مشرقا باسما لكنه أشبه بخريطة جراء كثرة الوشم...إشترى والدي قليلا مما كانت تعرضه تلك العجوز...وإنصرفنا إلى نهاية السوق لنجد بعض الأرانب والدجاج ...أكمل والدي تسوقه بشراء دجاجة حية ..وعدنا أدراجنا إلى البيت وفي الطريق طلبت منه أن يأخذني لاحقا إلى سوق الماشية . ..فوعدني بذلك ووفى بوعده مرارا.....
بقيت تلك الإطلالة الاولى إلى السوق محفورة في ذاكرتي رغم مرورأربعة عقود عليها...
كنت أود أن أدونها في حينها لكن أستسمحكم عذرا لأنني لم أكن أفك الخط بعد.....إبراهيم.